إجلالاً لرجل وقائد عظيم
فهرس المقال
أبو أرز،
بقلم كلوديا حجّار.
منذ أن وسّعت سوريا احتلالها للبنان، عملت من أجل تحرير وطني الحبيب. برغم أنني كنت عونيّة وأمجّد الجنرال إلى حد كبير، كان يتملكني الفضول حيال أبو أرز وحزبه حرّاس الأرز. اعتقد عون أنه سيعود قريباً من منفاه في فرنسا؛ لذلك رفض فكرة أبو أرز عن تأسيس محطة راديو في جنوب لبنان. كما رفض عون فكرة قدومه إلى الجنوب لقيادة النضال من أجل تحرير لبنان من السوريّين. في غضون ذلك، قام السوريّون ووكلائهم في السلطة في بيروت بتغييب حرّاس الأرز عن الساحة وعن السمع. كان أبو أرز نفسه مستقراً في منطقة جزين.
أول شيء خطر لي فعله هو أن أسأل أمي عن أبو أرز وحزبه. وهكذا فعلت. أخبرتني كم هو وطني ونبيل، وتدخلت أختي الكبرى لتخبرني عن صفاته الشخصيّة، صفات هي بنفس الوقت أخطاء رئيسيّة. قالت بأن الحب الذي حمله أبو أرز حيال وطنه كان عميقاً جداً إلى درجة أنه لم يكترث يوماً أن يظهر في العلن أو أن يستفيد شخصياً مما أنجزه. لقد كان دوماً، كما نقول، "خلف الستار". بدل أن يعمل من أجل غيره كي يقود الوطن، كان عليه أن يعمل لنفسه. لأن لا أحد يمكنه أن يعلم عن تاريخ واستراتيجية وجغرافية هذا الوطن أكثر منه، من دون أن ننسى احساسه الأصيل بالثقة والولاء. (شهادة إيفيتا حجّار)
بعد ثلاثة أسابيع، واحد من العديد من الأطباء الذين اعتدت على زيارتهم، دعاني إلى قضاء بضعة أيام معه ومع عائلته في بلدته الأم، في الجنوب. فدوّت كلمة "جنوب" في أذنيّ! كانت تلك الفرصة التي عليّ أن أقتنصها. سألته إذا كان يعرف أبو أرز ويعلم أين يقيم في الجنوب تحديداً. أجابني بذهول، "ماذا؟ ما إذا كنت أعرف أبو أرز؟" وبدأ في الضحك وتابع قائلاً، "إذا ما فكرت يوماً بقضاء عطلة نهاية الأسبوع في قريتي، فذلك فقط لأنني سأستطيع تنشق بعض الحريّة من أبو أرز... أنا أعبد هذا الرجل." وسألني ما إذا كنت واحدة من أتباعه السياسيّين. فقلت له بأنني لست كذلك ولكنني على اضطرار لمقابلته. لحسن الحظ أنه كان ودوداً وقال لي بأنني أستطيع الذهاب معهم متى ما أردت، حتى أنه قال لي بأنه لن يكون هناك أي مشكلة فيما يتعلق بجواز المرور، بعد ذلك، فهمت بأنها لم تكن أبحاثي ولا اصراري من قادني إلى أبو أرز، بل فقط "العناية الإلهية".
في نهاية ذلك الأسبوع نفسه، توجهت مع عائلة الطبيب إلى الجنوب. بالإضافة إلى ما كان عليّ فعله، كنت متلهّفة جداً للقاء هذا الرجل أو على الأقل أن أرى كيف يبدو في الشكل.
ما أحسسته دهر من الزمن انتهى أخيراً عندما فتحت بوّابة منزله في صبّاح، جزين. بعد عشرة دقائق، كنا داخل غرفة الجلوس في منزل أبو أرز، بانتظار أن يدخل. كان الأثاث في غرفة الجلوس وغرفة الطعام متواضعاً: كانت غرفة الطعام مزوّدة بكراسٍ بلاستيكيّة وطاولة بلاستيكيّة كبيرة، وأرائك طويلة في غرفة الجلوس، يبدو عليها مرور عقود من الزمن. أعني حرفياً بأنني شعرت بالزنبركات تحت أردافي!
كانت الجدران كلّها مزيّنة بصور شهداء حرّاس الأرز وشعارات مكتوبة. كان ذلك المنزل الذي زرته الأكثر فقراً وفي نفس الوقت الأكثر تأثيراً.
وأخيراً، دخل إلى الغرفة ورحّب بالجميع. بعد أن قمنا بتقديم أنفسنا رسمياً، بدأ الجميع بالحديث. وبينما كان الجميع يتكلّم، بقيت أحدّق في الرجل. رجل بتلك الجاذبيّة والتواضع في نفس الوقت، ما يجعل المرء متسائلاً ما إذا كان ذلك وجهه الحقيقي. بينما كانوا يتكلّمون، سألوه عن الوضع العام في لبنان. وبدأ يشرح، بدءاً من البدايات الأولى للحرب إلى اليوم الحاضر، كيف ولماذا آلت الأمور إلى ما آلت إليه ولماذا سيتغيّر الوضع بكامله، كل ذلك بالإستناد إلى تاريخ لبنان، جغرافيّته واللاهوت. شرح كل شيء بشكل بسيط جداً يصعب حتى على الطفل الصغير أن لا يفهمه. سألته لماذا جعل الأشياء تبدو بسيطة بينما يجعلها الآخرون غاية في التعقيد. وأجاب، "الحقيقة دائماً بسيطة وفقط الأكاذيب هي المعقّدة."
عند ذلك فقط أدركت أنها المرّة الأولى في حياتي التي أقابل فيها قائداً يتقن فن السمع والكلام من دون أن يقاطع أحد.
بينما كانت المحادثة دائرة، سألته، "كيف يمكنك أن تقول أن الحرب اللبنانية لم تكن حرباً بين اللبنانيين أنفسهم ولكن حرب الآخرين، في حين أن من تلومهم هم فقط القادة اللبنانيين؟"
أجابني، "كل الحروب تصنع من قبل الغرباء، كل منهم لأسباب ومصالح مختلفة، ولكن لا يمكنهم جميعاً أن يدعوها تحدث. لا يمكنها أن تحدث من دون أن يسمح لها بذلك قادة من الداخل، أو بتعبير آخر، خونة."
على الرغم من أنني أدركت أن كل ما قاله صحيح بالكامل ومنطقي وجدت نفسي غاضبة وحزينة بعض الشيء. في نفس الوقت لم أرد أن أعترف بذلك، ولكن الحقيقة الصعبة كانت أن ما رأيته في أبو أرز خلال بضع دقائق لم أستطع أن أجده في الجنرال عون. كل ذلك كان صعباً عليّ قبوله، وأكثر صعوبة لأنني كنت أعتبر عون مثالي الأعلى. كان شعوراً بالإحباط والتشوّش في نفس الوقت. فجأة وجدت نفسي أجهش بالبكاء. كانت الدموع تنهمر على وجهي ولم أستطع إيقافها. نظر إليّ ولم يقل كلمة واحدة! تأكدت أنه عرف سبب بكائي من اللحظة الأولى...
بعد أن أخذنا قسطاً من الراحة لبعض الوقت، قدم أبو أرز إلى منزل الدكتور ليتناول العشاء معنا. قضينا الليلة كلنا معاً حول طاولة العشاء، أصغيت إلى كل كلمة قالها هذا الرجل. كان نفس الرجل الذي التقيت به قبل بضع ساعات؛ كان له نفس التأثير عليّ وحتى أكبر. بدى لي أن هذا الرجل لن يتوقف عن التأثير فيّ ببساطة كلامه وحكمته. عندما غادر بقينا نتحدث عنه، وبقوا يرددون كل الوقت "رجل كأبو أرز فقط يستطيع أن ينقذ هذا الوطن".
لم أستطع النوم في تلك الليلة، بقيت أبكي حتى جفت دموعي. كان يوماً عاطفياً جدّاً بالنسبة لي. فأبو أرز مثّل بشخصيته كل الصفات التي يمكن ويجب أن توجد في القائد الحقيقي.
في الصباح الباكر من اليوم التالي، أتى أبو أرز. بدأت أخبره عن الإتصال الذي أجريته مع الجنرال عون. قلت له أن عون يعتقد أن محطة الراديو لم تعد ضرورية لأنه يؤمن بأننا قادمون على النهاية، والأمور إيجابية بالنسبة لنا.
أصغى أبو أرز بانتباه إلى كل ما قلته وعندما أنهيت فقط سألني كيف يمكن لعون أن يكون متأكداً إلى هذه الدرجة. وتنهّد بتحسّر، "إن شاء الله" وتابع قائلاً، "ولكنني لا أرى ذلك في المدى المنظور..."
عندما إنتهينا من الكلام عن الإحتلال السوري وكيف دخلوا إلى لبنان، سألته عن الإحتلال الإسرائيلي وما رأيه فيه، قال أبو أرز بيأس، "لقد كنا نعيد أنفسنا، وهكذا فعل الإسرائيليون، منذ عدّة سنين. ليس لدى الإسرائيليين أي أطماع في أرضنا أو في مواردنا. العلاقات بين لبنان وإسرائيل قوية منذ فجر التاريخ..." وتابع، "صدّقيني لو كان لهم أدنى هدف بإيذاء أي شيء يخصّنا، سأكون أول لبناني يضربهم ويواجههم، كما فعلنا مع الفلسطينيين والسوريين سنة 1975. أعتقد أن الجنرال عون يعلم ذلك أو على الأقل يجب أن يكون قد أدرك ذلك إلى الآن، وإلّا فللأسف أي قائد يكون؟"
شعرت نوعاً ما بالإهانة، رغم كل شيء كان الجنرال مثالي الأعلى ولم أستطع عندها تحمل أي شيء يحطّ من قدره، فأجبت بعنف وعدوانيّة، "لا أعتقد أن الجنرال عون يفهم الوضع أقلّ منك. وأؤمن أن الجنرال وحده سيقوم بكل ما يلزم لينقذ هذا الوطن وشعبه."
ويا للمفاجأة، لم يتخذ أبو أرز موقفاً دفاعياً، بل على العكس تماماً كان هادئاً جدّاً جدّا وقال للمرّة الثانية، "إن شاء الله. أودّ جداً أن أصدق ذلك..."
عندما أتى الوقت وكان عليّ مغادرة جزّين والعودة إلى بيروت، وعدته أن أفعل ما بوسعي... تمنّى لي التوفيق وقال، "إنتبهي إلى نفسك، ولا تظهري نفسك كثيراً وليكن الله معك. كلود، إذا احتجت إلى العودة إلى جزين لأي سبب كان، فأنت مرحّب بك جداً."
عندما وصلت إلى بيروت، شعرت بالإختناق، كما لو أنني قد تركت حريّتي هناك. شعرت بالطغيان السوري أكثر من أي وقت. وبقيت صورة أبو أرز محاطاً بكل شهدائه ماثلة أمامي... وما زالت كذلك إلى الآن.
في نفس تلك الليلة، قدمت تقريراً إلى الجنرال عون بكل ما تناقشت به مع أبو أرز. قال، "إنسي أمر محطة الراديو."
بعد خمسة أيام، بعد الثالث عشر من تشرين الأول (الغزو السوري) كنت هناك مع أبو أرز ورفاقه المقربين... الشهداء وحريّتي.
ما أتذكره تماماً من تلك الليلة هو أن أبو أرز كان يصرخ في وجه أحد رجاله، اعتقدت أن هناك شيء ما قد حصل ولكنني اكتشفت أنه كان يصرخ في وجهه لأن الساعة كانت الحادية عشر مساءً ولم يكن قد تناول العشاء بعد! من المذهل أن رجلاً كأبو أرز، يحمل كل هموم الوطن ما زال يقلق بشأن أمور بسيطة.
في اليوم التالي، تناقشنا مرة بعد مرة في كل الأمور.
وأتى الوقت وكان علي الذهاب، جلست في سيارتي أتهيأ للقيادة في طريق العودة، عندما سمعت فجأة صراخ أبو أرز، "توقفي، إنتظري ثانية".
لم أعرف ماذا يريد، اعتقدت أنه لربما قد نسيت شيئاً. في النهاية، رأيت أبو أرز متجهاً نحوي حاملاً حقيبتين في يديه! حقيبة مملوؤة بالبيض الطازج والأخرى في داخلها زجاجة من العسل الصافي. كان ذلك مضحكاً ومحرّكاً للمشاعر في آن. لم ينس أننا عندما التقينا للمرة الأولى أخبرته أن إبنتي، جنيفر، كانت مصابة بفقر الدّم. أعطاني البيض والعسل خصّيصاً لها!
بالرغم من شجاعته النادرة، لم يتوقف هذا الرجل عن التعبير عن حبّه واهتمامه بكل واحد منّا.
في أحد المرّات عندما كنت في جزين (كانت آخر زيارة لي لجزين)، حصل شجار بيني وبين أعضاء في الحزب، كانوا ينتقدون النهج السياسي للجنرال عون، فهاجمتهم بطبيعة الحال. فقاموا بإطلاع أبو أرز على ما حدث وعلمت لاحقاً من أحد منهم (الذي أصبح لاحقاً أعزّ أصدقائي) بأن أبو أرز قال لهم: "أتركوها، حتى لو هاجمتكم. لا تقوموا بالرد أو التعليق. إنها تعيش حالة من الصراع النفسي. إنها تائهة بين ضميرها وإخلاصها للجنرال... أعطوها فقط قليلاً من الوقت."
خلال وقت الفراغ، كنت أقرأ وأبحث في الأرشيف، قرأت كل ما يتعلق بهذا الرجل وحزبه. وما كان لا يصدّق أن كل مرجع قرأته احتوى على نفس الكلام؛ أبو أرز كان نفس الرجل ويحمل نفس المعتقدات والمبادئ على مرّ 25 سنة. أعني حرفياً أن المرء يتسائل أحياناً إذا ما كانت كل بياناته (خلال 25 سنة) قد كتبت في نفس الوقت.
مرّت سنتان من دون أي نتائج. للأسف، كان عليّ الإعتراف لنفسي حينها أن أبو أرز قد قدّم حياته، مصداقيّته وكل شيء لينقذ لبنان. بينما كان الآخرون يناورون فقط ليقيسوا شعبيتهم. منذ تلك اللحظة أصبحت حارسة أرز بالكامل، وأصبح ولائي وإخلاصي لأبو أرز. هذه المرّة، كان كل شيء مختلف: مخلصة لأبو أرز تعني، بلا ريب مخلصة للبنان، وليس فقط مخلصة للرجل لشخصه.
أتذكر أنني سألته مرّة، لماذا يقوم بالصلاة كل مرّة قبل أن يكتب وينشر أي بيان؟ وكان جوابه: "عائلتي، رفاقي، ومقاتلييّ في بيروت تحت الحكم السوري، فأصلّي لله ليعطني القوّة والشجاعة لأكتب الحقيقة وأسمّي الأشياء بأسمائها؛ من دون أن أضعف وأفكر في النتائج الخطيرة التي سيكون عليهم تحمّلها..."
واحدة من أكثر الأمور شجاعة وجرأة التي تعلمتها كانت ذلك اليوم الذي رأينا فيه أبو أرز أمامنا، هنا في بيروت. المدان من قبل وكلاء السّوريين في لبنان، قدم ليعطنا دعماً معنويّاً... علمت لاحقاً أنه اجتاز الطريق متنكّراً...
ربّما أنه لم يولد شجاعاً وجريئاً جداً ولكن حبّه العظيم لشعبه ووطنه قد زاد من تلك الصفات فيه.
كان باستطاعة أبو أرز اليوم أن يكون كما جميع الآخرين، مقيماً في أي مكان أو بلد دعا إليه؛ ولكن كيف يمكن لأي قائد عظيم، قائد كأبو أرز، أن يقوم بذلك، وهو يعلم أنه في مكان ما هناك لبنانيّ واحد يعيش في البؤس واليأس ويحتاج للمساعدة.
حتى هذا اليوم ما زال أبو أرز يدفع ثمن حبه غير المشروط للبنان واللبنانيّين والحقيقة... ليكن الله معه.
كلوديا حجّار.
- << السابق
- التالي